01‏/05‏/2015

في المكان الخطأ والتوقيت الخطأ: رحلة مواطن يمني من اليمن الى القاهرة في وسط الحرب



الجزء الاول :

منذ ٨ سنوات وانا أعيش واعمل في مصر مع زوجتي وأطفالي ،، كانت القاهرة هي موطني الثاني وسكني الذي اعتدت عليه ، وفيها استقر بي الحال عندما قرر اخي اقامة عرسه في مدينة تعز يوم (٢٥/٣/٢٠١٥) . 
و لحضور الزفاف قررت ان احجز تذاكر الطيران مبكراً.

في كل مرة أزور فيها اليمن كنت اسافر الى صنعاء أولاً لزيارة بعض الأهل والاصدقاء قبل ان انطلق الى تعز براً لزيارة بقية عائلتي الكبيرة هناك ، لكن هذه المرة وبسبب الأوضاع الأمنية المضطربة في صنعاء (وقتها كانت باقي المحافظات مستقرة امنياً ) طلبت من مكتب السفريات ان يحجز لي الى عدن ومنها سأسافر براً الى تعز .
شائت الاقدار ان تنفجر الأوضاع في عدن قبل سفري بأيام وخصوصاً حول مطار عدن عندما تمردت القوات الخاصة الذي يقع معسكرها بجواره ، ودارت معركة دامية مع اللجان الشعبية الموالية للرئيس هادي ، وأغلق المطار لأيام قبل ان يعاد فتحه قبل سفري بيوم واحد بعد هزيمة القوات الخاصة .

وصلت عدن فجر الثلاثاء وكان مقررا ان اسافر مع باص "راحة" الى تعز ، لكن أصدقائي هناك طلبوا مني ان اسافر بسيارتهم عصرا وقد كان . بعدها بدأت الأخبار تتوالى عن انفجار الوضع الأمني في تعز ومقتل متظاهرين واشتباكات بين الأهالي وبين قوات الأمن الخاص الموالية للحوثيين ، بالاضافة الى اشتباكات في منطقة كرش على الطريق من عدن الى تعز ، وامام إصرارهم اتفقنا ان يتم تأجيل السفر الى فجر اليوم التالي .

انطلقنا الساعة السادسة فجراً وآخر الأخبار لدينا بهدوء منطقة الاشتباكات على الطريق.
في الطريق من عدن الى تعز لم يكن غير اللجان الشعبية المسلحة الموالية لهادي وكان الوضع ينبئ بهدوء غير ان المفاجاة كانت عند وصولنا الى قرب قاعدة العند الشهيرة عندما اكتشفنا ان الحوثيين قد تجاوزوا القاعدة ، لم نكن نصدق مانراه على عكس ماكنا نسمع في الاعلام !

لم نفق من هول المفاجأة الا عند سماعنا لأطلاق نار مفاجئ اصاب السيارات التي كانت أمامنا مباشرة ورأينا مدنيين يسقطون بالقرب منا . عدنا الى الخلف في اتجاه عدن الى منطقة قريبة قبل ان نقرر المغامرة والعودة و نستكمل طريقنا الى تعز بعد هدوء الاشتباكات !
كان الطريق بعد ذلك مليء بنقاط التفتيش التابعة للحوثيين. وكان ذلك ظاهرا من خلال سيارات الجيش التي تم طلائها بألوان القوات الخاصة مع بقاء لوحة الجيش او تلك التي لم يكن عليه ارقام وكانت مغطاة بلاصق اللون الخاص بتلك القوات.
وصلنا تعز بعد ٦ ساعات في رحلة تستغرق في الوضع الطبيعي ساعتين ونصف . حضرت مراسم العرس وكان الجميع يستغرب قصتي عن وصول الحوثيين الى العند بينما الاعلام يتحدث فقط عن اشتباكات في كرش والضالع .
انتهت مراسم العرس عند منتصف الليل ، ونمت لأستيقض على اخبار قصف قوات التحالف و إغلاق المجال الجوي والبحري لتبدأ قصتي مع محاولات العودة البائسة الى القاهرة .


-----
الجزء الثاني :

في اليوم الاول للقصف وإغلاق المجال الجوي والبحري كنت احاول التفكير بطريقة للخروج من اليمن قبل ان تزداد الأمور سوءاً ، وقبل ان ترد أخبار جديدة بفرض السلطات المصرية فيزة دخول على اليمنيين اليها و إغلاق السفارة المصرية في اليمن ابوابها منذ فترة . حينها اصبح امامي تحديين حقيقين : الاول هو الخروج من اليمن ، والثاني هو الدخول الى مصر .
تواصلت مع جهة عملي في مصر التي أوفدت الى سلطات الهجرة هناك بمذكرة تطالب بمنحي فيزة دخول مباشرة من دون الحاجة الى الذهاب الى السفارة المغلقة أساساً في صنعاء . تم الرفض لأسباب تتعلق بعدم وجود آلية للتعامل مع القرار الذي تم اتخاذه فجأة . بدأت الوضع يزداد تعقيدا خصوصا مع شعوري بأن بلدي الثاني الذي استودعته اسرتي و عملي و بيتي و كل ما املك يرفض استقبالي .

مضى يومين و تفكيري مشلول قبل ان تبلغني جهة عملي عن محاولة لاستغلال ثغرة إنسانية في القانون المصري يتيح للاسرة الأجنبية المقيمة هناك استقدام احد أفرادها من الدرجة الاولى تحت بند "لم الشمل" . ذهبت زوجتي لمصلحة الهجرة لتقديم الأوراق المطلوبة ،، كان الرد بانه سيتم عرض الامر على أمن الدولة للموافقة في خلال أسبوعين مع عدم ضمان الموافقة بسبب حساسية الوضع الأمني ومشاركة مصر في التحالف الذي يحارب في اليمن .

وبما ان ذلك كان الخيار الوحيد المتاح حينها ، لم يكن امامي غير الانتظار والتفرغ لمعركة الخروج من اليمن.
لم يكن هناك اي بادرة أمل لأستئناف حركة الطيران خصوصا وان القصف كان يطال المطارات واحدا بعد الاخر. . وضعت الخارطة امامي لمحاولة استكشاف طرق غير تقليدية . كانت الدول المحادية لنا هي ارتيريا ، جيبوتي و الصومال . كانت سفارات تلك الدول قد تم اغلاقها في صنعاء وإغلاق قنصلياتها في عدن بعد انفجار الوضع هناك أيضاً . 
اتصلت بعدد من الاصدقاء على أمل الحصول على معلومة مفيدة ، اخبرني احدهم ان صديقه وهو القائم بأعمال رئيس الجالية الجيبوتي في صنعاء يتصل بمواطنيه ويطلب منهم التوجه الى ميناء المخاء وسيتم إرسال باخرة من الحكومة الجيبوتية لنقلهم الى جيبوتي .

طلبت من صديقي ان يحاول مع صديقه الجيبوتي إضافتي الى كشف المواطنين الجيبوتيين بأي طريقة ،، وافق الرجل بشرط الحصول على فيزا دخول الى جيبوتي و اخبره بأن السفارة ستفتح ابوابها بشكل استثنائي يوم الجمعة لاستكمال بعض المعاملات المعلقة قبل ان تغلق نهائياً .
أرسلت جوازي الى صنعاء و تولى اخي هناك الذهاب الى السفارة واستخراج فيزة دخول صالحة لمدة شهر . وبرغم الجهود التي بذلها اخي لتسريع الإجراءات الا انه أستصدم بمشكلة عدم وجود دولارات متاحة لدفع رسوم الفيزة حيث أصدر البنك المركزي قبلها بأيام تعليماته بعدم بيع العملات الأجنبية . وبعد اتصالات عديدة تمكن اخيرا وقبل إغلاق السفارة بدقائق من الحصول على المبلغ المطلوب وتم ادراج اسمي في كشوفات الجالية الجيبوتية .

سألتهم عن موعد السفر الذي كان يتأجل كل يوم ، فطلبوا مني ان أبقى على وضع الاستعداد .

بعد يومين ، الساعة ٢:٣٠ فجرا اتصل احدهم وطلب مني ان أكون بعد ساعة ونصف في المخاء !! 

وقتها كانت أزمة البترول قد بدأت تضرب تعز ، ولم يكن في سيارة اخي ما يكفي للسفر الى المخاء كما لم يكن الوقت مناسبا للحصول على اي وسيلة مواصلات اخرى !
عاد تفكري للشلل وانا احاول الحفاظ على بارقة الأمل الوحيدة .. حاولت الاتصال بأكثر من صديق الا ان الوقت كان متأخراً ولم يكن امامي إلا الانتظار بقلق الى الفجر .
عند السادسة صباحاً حصلت على وسيلة نقل بديلة وقررت السفر رغم ان التعليمات كانت واضحة ان أكون هناك فجرا، لكن لا مناص من المحاولة .


وصلت الى المكان المطلوب في المخاء على الساعة الثامنة صباحاً وكلي أمل ان الفرصة لم تكن قد تركتني لحيرتي مرة اخرى . وبالفعل وجدت الجالية الجيبوتية مازالت هناك و بدا انهم قد قضوا الليل نياماً في الشارع وكان الوضع مأساويا لهم خصوصا وان اغلبهم من النساء والأطفال .

فهمت منهم ان المركب لم تأتي بعد ، وليس لديهم أية اخبار مؤكدة عن موعود الوصول الجديد . افترشت الارض معهم في انتطار اي معلومة . وعند الساعة الحادي عشر ظهراً قالوا ان عليهم الذهاب آلى الميناء . ذهبنا الى ميناء المخاء الذي ادخله للمرة الاولى في حياتي .. الميناء الذي يعرف العالم كله اسمه "موكا" بسبب كونه الميناء الذي اشتهر تاريخيا بتوريد القهوة اليمنية الشهيرة ، كان مكان يبعث على الرثاء .. سلمنا جوازات سفرنا هناك وقال لنا موظفوا الجوازات بكل برود انه لن يتم تسليمنا جوازات سفرنا الا في جيبوتي .. لم تكن لدينا رفاهية الرفض او الاعتراض .
قضينا ثلاث ساعات بين الشمس في انتظار وصول الباخرة ، وأثناء ذلك حدث إطلاق ناري لم نعرف مصدره انتهى بإصابة طفل بيننا قبل ان تستقر رصاصة في رجل طفل جيبوتي اخر .

جاء الحوثيين بشاصاتهم وبعنجهيتهم معتقدين ان إطلاق النار قد حدث من جهتنا قبل ان ينسحبوا حتى من دون الالتفات الى الأطفال المصابيين. اصر اهل المصابيين على عدم الذهاب الى اي مركز طبي قريب حيث لاوجود لمستشفى في المخاء .. قالوا انهم سيحملونهم في الباخرة و يأخذوا المخاطرة حتى الاخر .
جائت الباخرة المنتظرة .. لم تكن كما توقعنا ، لم تكن مرسلة من الحكومة الجيبوتية ، لم تكن باخرة اصلاً ، كان مركب محلي مهتريء لنقل المواشي ! كنت أتلفت حولي على أمل ان يشاركني احدهم مشاعر الاستنكار ، لكني وجدت في عيون الجميع لهفة ، فقد جاء الفرج اخيراً !!


----
الجزء الثالث : 

اكتض المركب بحوالي ٣٠٠ فرد أغلبهم من الجالية الجيبوتية والصومالية ، تشكل النساء والأطفال النصيب الأكبر ، افترشوا ارض المركب الذي كان معتاد على شحن الحيوانات والبضائع . لم اتخيل في البداية كيف ان هذا الحشر يمكنه الصمود لمدة ١٦ ساعة في البحر حيث كانوا محشورين بطريقة غير أدمية . حاول أصدقائي في تعز التواصل مع صاحب المركب حتى يضمنوا لي مكان ملائم . كان ذلك المكان هو ممر بجانب غرفة القبطان ان صح تسمية من يقود ذلك المركب بالقبطان طبعا .
افترشت الارض وحمدت الله ان وجدت مكان بأرضية مستوية قبل ان يتوافد حوالي ٣٠ يمنياً الى نفس المكان الذي لا يتجاوز أربعة متر مربع ! كان معظمهم من المقيمين في جيبوتي وقليل من الطلاب في الخارج و بعض الفاريين من الجحيم .
كانت لهم قصص مختلفة عن كيفية وصولهم الى المركب حيث كنت اعتقد قبلها أني اليمني الوحيد الذي سيكون في هذا المكان . وبالرغم من ضيق المكان الذي لم يكن يتيح حتى حرية الحركة الا ان اجواء من الالفة سادت المكان سريعاً.

الغريب ان معظمهم لم يحصل على فيزة الدخول الى جيبوتي كما حصلت عليها وحسب مافهمت منهم انهم سيحاولون الحصول على فيزة عبور من ميناء الوصول وأنهم دفعوا رشاوى لموظفي الجوازات اليمنية كي يمكنوا من صعود المركب . كان واضحاً ان عملية الصعود الى المركب عشوائية كما اخبرني الشخص المكلف من السفارة الجيبوتية لعملية التنسيق ، وان كثير ممن صعدوا المركب لم يكونوا ضمن الكشف الرسمي .

بدأ المركب في الحركة وكان صوت المحرك عاليا لدرجة صعوبة سماع صوت من هو بجانبك بالاضافة الى اهتزاز المركب بسبب رداءة المحرك والرياح التي بدأت بتعكير الجو .

كان المحرك موجود وسط النساء والأطفال في الأسفل وكنت اتخيل حالتهم وهم يفترشون حوله . 
مضت ١٥ ساعة ونصف قبل ان نصل الى ميناء جيبوتي عند الفجر .
في الميناء إرتص فريق من الامم المتحدة في انتظارنا ، قاموا بإنزال بعض المسافرين واجرى التلفزيون مقابلات مع بعض المسافرين قبل ان يغادروا سريعاً.

كنت اعلى المركب اشاهد المنظر و اقلب عيني بين عدد وفخامة سيارات فريق الامم المتحدة وبين منظر الركاب غير الإنساني المحشورين في ارضية المركب ! خصوصا بعد ان علمت لاحقاً ان المركب تم استأجره من قبل الأمم المتحدة وان كل الأموال التي دفعها الركاب كانت تذهب لسماسرة .

كان واضحا انه حتى الامم المتحدة تهتم بالظهور الإعلامي اكثر من اهتمامها بسلامة الناس و آدميتهم .
انتقلنا من المركب الى منطقة الجوازات وهناك بدأ فصلا اخر من المعاناة .
افترشنا الارض بين الشمس لثمان ساعات في انتظار تسليمنا جوازات السفر .. كانت الاولوية لمرور الجيبوتيين ثم الصوماليين . كان ملفتاً وجود فريق من ستة أفراد من السفارة البريطانية لمساعدة حاملي الجواز البريطاني الذي اتضح لاحقا انهم لايتجاوزون الخمسة ، بينما لا احد من سفارة اليمن بطبيعة الحال.

موظفوا الجوازات الجيبوتيين يتحدثون اللغة المحلية والفرنسية و يتعاملون بلامبالة وفوضوية شديدة .
بالنسبة للمقيمين في جيبوتي من اليمنيين فقد مروا سريعا ، بعدهم الطلاب الحاصلين على اقامات في بلاد اخرى ، وفي حالتي كانت الخطة هي انتظار الحصول على الموافقة الأمنية من السلطات المصرية ومن ثم استكمال إجراءات الحصول على الفيزا من السفارة المصرية في جيبوتي .

بمجرد علم موظفي الجوازات أني لم احصل على الفيزا بعد كان كفيلا بإحتجازي مع مجموعة اخرى من اليمنيين في انتظار ترحيلنا الى مخيم النازحين !!
حاولت ان اشرح لهم موقفي وان أوكد لهم اني أحمل فيزا رسمية من سفارتهم في صنعاء تخول لي دخول جيبوتي لمدة ثلاثين يوما لكن كل محاولاتي فشلت امام عائق اللغة والتعنت الشديد الذي تفاجئت به .

اتصلت لصديق حاصل على الجنسية الجيبوتي عله يشرح لهم أفضل مني ،، جاء صديقي و عرض عليهم ان يضمن خروجي من البلد خلال اسبوع لكنهم احتجزوا بطاقته ايضا وأصروا على ترحيلي مع بقية اليمنيين الى مخيم النازحين .
كان مخيم النازحين يبعد حوالي ٦٠ كيلو من العاصمة ، وكان الدخول اليه يشبه الدخول الى المعتقل ان لم يكن أسواء .
لم يكن من خيار أمامي الا الهروب من الميناء وان اترك جواز سفري هناك الى حين ترتيب افكاري وقد كان ذلك .
نزلت في فندق نجمتين بـ ١٠٠$ حيث تشتهر جيبوتي بردائة فنادقها وارتفاع اسعارها . تجاوزنا مشكلة عدم وجود وثيقة هوية للحصول على غرفة بصعوبة . ونمت كالميت حتى المساء .

حاولت التواصل مع بعض الأصدقاء في جيبوتي للحصول على مساعدة من السفارة اليمنية هناك ، لكن كان واضحا سمعة أفراد السفارة السيئة في أوساط اليمنيين هناك .
لم يكن لدي اي خيار غير حجز تذكرة طيران مغادرة الى القاهرة يوم السبت كي استعملها كمحاولة لتحرير جواز سفري .
ذهبت صباح اليوم التالي الأربعاء الى الميناء و اصطدمت بمنعي من الدخول لاني لا املك تصريح دخول الى الميناء . حاولت شرح الموقف للجنود هناك لكن بلا أمل . جاء صديقي الذي كان لديه تصريح منتهي الصلاحية وحاول تجديده كي يضمن لي الدخول لكنه اكتشف ان قوانين التجديد قد تغيرت وأصبحت معقدة وانه بحاجة الى ايام حتى يتمكن من تجاوز المتطلبات الجديدة . مرة اخرى يتشتت هدفي الأساسي الى أهداف جانبية !

لم يكن لنا من خيار غير رشوة الجنود ، وبعد محاولات طويلة تمكنا من الدخول قبل ان نعلم ان مديرة الجوازات التي كانت قد احتجزت جوازي غادرت وأنها ستعود في المساء .
قررت ان أبقى هناك لكن احد الجنود تعرف عليا وأصر ان اذهب معه الى مخيم اللاجئين ! 
وبعد محاولات للتخلص منه ، هربت مرة اخرى من الميناء !
عدت في المساء مع صديق اخر لديه تصريح دخول ، وكان حينها قد وصل مركب اخر من عدن ،، هذه المرة اغلب المسافرين من اليمنيين من الهاربين من جحيم المعارك هناك .

تمكنت بصعوبة من دخول المكتب وسط الازدحام والفوضى، التقيت بمديرة الجوازات وعرضت عليها تذكرة السفر وقلت لها اني تدبرت كل شيء للسفر ،، نظرت بإهمال الى التذكرة ، وقالت لي مازال أمامك ثلاث ايام للسفر ، ويجب احتجازك في مخيم اللاجئين !!

اتصلت فوراً بمكتبنا في القاهرة ليغيروا موعد الحجز على ان يكون موعد السفر صباح يوم الخميس ، وطلبت من صديق اخر في جيبوتي ان يأتي لي بنسخة من التذكرة .
عرضت التذكرة الجديدة على مديرة الجوازات ،، نظرت لها وطلبت مني الانتظار لنصف ساعة ،، وامتدت النص ساعة الى ثلاث ساعات وهي ترفض الحديث معي وأنا أقف أمامها بطريقة مذلة وحاول الجنود مرارا إخراجي من المكتب وفي كل مرة كنت احتمل صلفهم من اجل الحصول على جوازي . فقد نصحني الأصدقاء هناك بضبط النفس وعدم الاشتباك معهم لفظيا لأن لديهن سوابق مؤلمة مع تعنت الجنود هناك.

كان مندوبوا السفارات البريطانية والأمريكية والمصرية والاردنية يعملون كخلية نحل لإستكمال إجراءات الدخول لمواطنيهم وكنت اشعر بالأسى لحالي كيمني حيث لا احد من السفارة اليمنية لتسهيل معاناتهم منذ اليوم السابق.
بعدها قالت لي مديرة الجوازات : يجيب ان تذهب الى مخيم اللاجئين و يجب على السفارة اليمنية ان تقوم بإخراجك !!
حاولت ان افهم المنطق من وراء ذلك خصوصا وإني دخلت البلاد بصورة رسمية لكنها قالت لي: انت هنا لاجيء وليس لك الحق ان تناقش ما ينبغي ، نحن من يقرر وعليك ان تنفذ فقط !
عاد تفكيري الى حالة الشلل مرة اخرى امام كل هذا العنت قبل ان يدخل علينا شخص بكرش وثياب مهلهلة ويقول لموظف الجوازات بجانبي : انا السفير اليمني !

شرحت له حالتي ورد ببرود ان لديه حالات اهم . كانت في الحقيقة حالة واحدة التي جائت بالسفير الى المكان بناء على وساطة ليس اكثر . انتظرت حتى التقى السفير مديرة الجوازات فطرحت حالتي ،، قالت المرأة للسفير يجب ان تكفل السفارة اليمنية الرعايا اليمنيين الذين لايريدون الذهاب الى المخيم . رد عليها : نحن لانكفل الا التجار !! 
اشتبكت معه وكاد الامر ان يتحول الى معركة بين السفير اليمني و مواطنه امام مديرة الجوازات الجيبوتية قبل ان تتدخل الاخيرة و تطلب مني انتزاع بطاقة السفير وتصويرها وإجباره على توقيع الضمانة وكان لها ذلك امام ذهول السفير .
طرت بجواز سفري فرحاً وكأن مشاكلي قد انتهت قبل ان انتبه وانا في طريقي الى الفندق ان مشاكلي مازات كما هي وان الانتصار الأخير كان فقط في معركة جانبية ليس إلا !


-----

الجزء الرابع :

بعد حصولي على جواز سفري أبلغتني جهة عملي بأن الموافقة الأمنية لدخولي مصر قد صدرت ، و بأنهم سيبدأون في إجراءات إرسال الموافقة الى السفارة المصرية في جيبوتي كي أتمكن من البدء في إجراءات الحصول على الفيزا وكان ذلك سيستغرق حوالي عشرة ايام . وقتها لم تعد جيبوتي بالنسبة لي خياراً أمناً للبقاء ، فقد كان الخروج منها اولوية تفوق دخولي الى مصر .

نصحني المكتب ان اذهب الى ماليزيا او الاْردن لإستخراج الفيزا من السفارة المصرية هناك . وبما ان الرحلة كلها كانت مليئة بالمغامرات فقد قررت اضافة واحدة ومحاولة السفر الى مصر من دون فيزا والاكتفاء بالموافقة الأمنية . كان احتمالية ان يرفضوا دخولي ٩٩٪ ، لكن على الأقل سأجد من أستطيع ان أتفاهم معهم ، وعقدت العزم على ذلك .

ذهبت في اليوم التالي المطار وهناك واجهت مشكلة اخرى ،، رفض موظف الطيران صعودي الى الطائرة بسب عدم حصولي على الفيزا المصرية و رفض فكرة وجود الموافقة الأمنية التي لم تكن سوى رقم ارسلته جهة عملي برسالة نصية . فكرت بطريقة لتجاوز هذا التعنت الجديد ، وقررت شراء تذكرة سفر من القاهرة الى الاْردن و أقنعت موظف الطيران أني سأنزل في مطار القاهرة ترانزيت لبعض الاعمال قبل ان استقل رحلتي الى الاْردن . تنبه الموظف الى حيلتي فقرر ان يضع شنطتي في الشحن رغم انني معتاد على حملها معي في الطائرة ، وقام بشحنها الى الاْردن مباشرة ! كان علي حينها ان استخرج منها جهاز اللابتوب والشاحن الخاص به وشاحن التلفون وبعض الأغراض المهمة لأحتمالية فقدها ان نجحت محاولتي لدخول القاهرة . حاولت شراء حقيبة اخرى من المطار لأضع فيها أغراضي فلم اجد فكان مظهري مثيرا للضحك وانا احمل كل تلك الأشياء بيدي .

وانا في المطار ، أشار موظف الجوازات الى شخص يقف قريبا مني وقال لي انه مسؤول في السفارة اليمنية في جيبوتي ،، اقتربت منه قبل ان اعرف انه هنا فقط لتسهيل سفر خادمة اثيوبية تابعة لسيدة يمنية يبدو عليها الثراء ،، تأكدت حينها لماذا تمتلك السفارة اليمنية كل هذه السمعة السيئة ولماذا لاتضمن السفارة سوى التجار !

طرت الى أديس أبابا بطائرة رديئة ، وكانت اول مرة اسافر على طائرة بلا محركات وإنما بمراوح جانبية . وصلت الى مطار أديس أبابا الساعة الثامنة والنصف مساءً ، وتحققت من موعد الرحلة التالية الى القاهرة .. كان مكتوب فيها الساعة ٢١:١٥ ، لكن مع الإرهاق قرأتها ٢٣:١٥ . ذهبت للبحث عن حقيبة حتى أضع عليها كمبيوتري وبقية الأغراض التي أخرجتها من حقيبتي التي تم شحنها الى الاْردن . بعدها توقفت امام مطعم يقدم وجبات اثيوبية فتذكرت وجبتي المفضلة في اليمن "الزجني" 😀 والتي هي في الأساس وجبة اثيوبية ،، كنت ميتا من الجوع وكانت فرصة لتذوق الوجبة في موطنها الأصلي  وانا في انتظارها دار في خاطري تساؤل غبي : هل ٢٣:١٥ تعني الساعة الحادية عشر ام الثانية عشر ! وكان واضحاً ان دماغي قد اهترت بصورة مضحكة قررت ان اتصل بزميلي في القاهرة الذي كان مسؤول عن ترتيب تذاكر السفر قبل ان يصرخ ويقول رحلتك بعد عشر دقائق !

طلبت من المطعم إلغاء الطلب لكنهم رفضوا ، ويبدوا ان الرفض هو الإجابة المحببة في كل افريقا فدفعت ١٥$ ثمن الوجبة التي لم أتناولها و هرولت كالمجنون كي أصل الى بوابة الرحلة التي كانت في اخر المطار و بعد رجاء شديد وافق الموظف على إرسالي بباص بمفردي الى الطائرة التي كانت تستعد للمغادرة . وصلت القاهرة الساعة ١:٣٠ فجراً وعند الجوازات كاد قلبي ان يتوقف وانا انتظر ردة فعل الضابط بعد ان أخبرته برقم الموافقة الأمنية ،، استغرق لحظات وهو يتحقق من جهاز الكمبيوتر الخاص به قبل ان يضع ختم الوصول ،، كان صوت الختم هو اجمل موسيقى سمعتها في حياتي.

و قبل ان أغادر المطار ، قررت ان اتوجه الى مكتب الطيران الذي كان سيقلني الى الاْردن و سألتهم عن إمكانية استرداد شنطتي ،، رفضوا في البداية ثم وافقوا بعد كثير من الإلحاح .

وصلت بيتي وانا غير مصدق ان كل شيء انتهى اخيرا ، ونمت كما لم أنم من قبل .

بعدها بأيام ذهبت الى مجمع التحرير لتسوية وضع اقامتي انا وأسرتي ، وضعوا على جوازاتهم اقامة غير محددة المدة وانا اقامة مؤقتة لمدة ستة أشهر فقط لأنني لم اكن داخل مصر عند تغيير القوانين !

كتابة: فهد عقلان
نشر بتاريخ ٢٧ ابريل ٢٠١٥